في السنوات الأخيرة، شهدت مصر تحولًا ملحوظًا في كيفية التعامل مع ذوي الهمم، فلم يعد الأمر مجرد دعم رمزي أو تقدير مجتمعي عابر، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من سياسات واستراتيجيات الدولة. هذا التحول يهدف إلى تحقيق تمكين حقيقي ومستدام لهذه الفئة المهمة من المجتمع، خاصة في المجال الاقتصادي. قضية دمج وتمكين ذوي الاحتياجات الخاصة، أو "أصحاب الهمم" كما أطلق عليهم الرئيس عبدالفتاح السيسي، أصبحت من القضايا الجوهرية التي تتصدر أولويات الدولة المصرية. يأتي هذا التوجه في إطار رؤية أشمل تتمثل في "رؤية مصر 2030"، التي تسعى إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة، لا تُقصي أحدًا من فئات المجتمع، بل تفتح أبواب العمل والإنتاج أمام الجميع، انطلاقًا من مبدأ أن لكل إنسان قدرات كامنة تستحق الفرصة كى تثمر. هذا التوجه يعكس إيمانًا عميقًا بأن دمج ذوي الهمم في سوق العمل ليس مجرد واجب اجتماعي، بل هو أيضًا استثمار اقتصادي يعود بالنفع على المجتمع بأكمله. فمن خلال توفير الفرص المناسبة والتدريب اللازم، يمكن لذوي الهمم أن يصبحوا أعضاء فاعلين ومنتجين في المجتمع، يساهمون في النمو الاقتصادي ويحسنون من مستوى معيشتهم.
نموذج من أسيوط.. مبادرة واقعية للتمكين
ضمن هذا الإطار الوطني، تبرز مبادرة محافظة أسيوط كنموذج واقعي للتمكين الاقتصادي لذوي الهمم. فقد شهدت المحافظة تسليم عدد من ماكينات الخياطة والتطريز الحديثة لعدد من الشباب والفتيات من الصم وضعاف السمع. هذه الخطوة ليست مجرد لفتة رمزية أو دعائية، بل تعكس مسارًا عمليًا نحو التمكين المهني والاقتصادي لهذه الفئة، التي عانت طويلًا من التهميش في سوق العمل. بحضور اللواء الدكتور هشام أبو النصر، محافظ أسيوط، تم تسليم 11 ماكينة متنوعة، من بينها ماكينات سرفلة، مكواة بخار متطورة، وأجهزة متعددة الأغراض، إلى 9 فتيات وشابين من ذوي الإعاقة السمعية. لم تكن هذه الماكينات هدايا عشوائية، بل جاءت بعد تدريب مهني مكثف استمر لمدة عام، خضع له المستفيدون، تلاه تقييم اجتماعي دقيق للتأكد من مدى استحقاقهم وجدوى الدعم. هذا التدريب المكثف والتقييم الاجتماعي الدقيق يضمنان أن الدعم يصل إلى مستحقيه الحقيقيين، وأنهم قادرون على الاستفادة منه على أكمل وجه. وتأتي هذه الخطوة بالتنسيق بين المحافظة ومديرية التضامن الاجتماعي، وبمشاركة فاعلة من الجمعيات الأهلية، في مثال عملي على تكامل الجهود بين الحكومة والمجتمع المدني، وهو ما أكدت عليه رؤية المحافظ في تصريحاته، حيث شدد على أهمية هذا التكامل لضمان وصول الدعم لمستحقيه الحقيقيين.
من الدعم إلى الاعتماد على الذات
إحدى أهم النقاط التي ميّزت هذه المبادرة هي أنها لم تقتصر على تقديم معدات، بل سبقتها عملية إعداد وتأهيل، وهو ما يُشير إلى وعي عميق بأهمية "التأهيل قبل التمكين". فتوفير ماكينة وحده لا يكفي إذا لم يكن المستفيد قادرًا على استخدامها وتحويلها إلى مصدر دخل فعلي ومستقر. هذا النهج يضمن أن ذوي الهمم ليسوا مجرد متلقين للدعم، بل هم مشاركون فاعلون في عملية التنمية الاقتصادية. وبحسب تصريحات عدد من الفتيات المستفيدات، فإنهن يشعرن للمرة الأولى بأنهن قادرات على الإنتاج وتحقيق دخل مستقل، دون انتظار معونات أو مساعدات. البعض منهن بدأ بالفعل في تجهيز ركن صغير داخل المنزل للعمل، والبعض الآخر يفكر في تأسيس مشروع صغير مع زميلات أخريات، وهو ما يعني أن دائرة التأثير الإيجابي تتسع تدريجيًا. هذا الشعور بالاعتماد على الذات والاستقلالية المالية هو أحد أهم أهداف مبادرات تمكين ذوي الهمم، فهو يعزز من ثقتهم بأنفسهم ويحسن من جودة حياتهم.
الدولة.. نظرة شاملة نحو ذوى الهمم
لا تقتصر جهود الدولة على مبادرة واحدة أو محافظة بعينها. فالرئيس عبدالفتاح السيسي أعلن مرارًا عن التزامه الشخصى والحكومى بدعم ذوى الهمم، وتم إعلان عام 2018 عامًا لهم. وتوالت بعدها الإجراءات، من إصدار قانون حقوق الأشخاص ذوى الإعاقة، إلى إطلاق عدد من المبادرات القومية الخاصة بالتشغيل والتدريب. وشهدت السنوات الأخيرة إدماج ذوى الهمم فى كافة القطاعات، سواء عبر تخصيص نسب لهم فى التعيينات الحكومية، أو دعمهم بمشروعات صغيرة ضمن برامج مثل "مشروعك" و"تنمية الأسرة" و"تكافل وكرامة"، إلى جانب جهود وزارتى التضامن الاجتماعى والقوى العاملة، فى تأهيلهم لسوق العمل، خاصة فى مجالات الحرف اليدوية والخياطة والتطريز والخدمات العامة. هذه الجهود المتكاملة تعكس رؤية شاملة للدولة لتمكين ذوي الهمم في جميع جوانب الحياة، وليس فقط في المجال الاقتصادي. فالدمج في التعليم، وتوفير الرعاية الصحية المناسبة، وتيسير الوصول إلى الخدمات العامة، كلها عوامل أساسية لضمان تحقيق التمكين الكامل والمستدام.
التحديات باقية.. لكن الأمل أقوى
ورغم هذه الإنجازات، لا تزال هناك تحديات قائمة، على رأسها ضعف الوعى المجتمعى أحيانًا بقدرات ذوى الهمم، وصعوبة اندماج بعضهم فى سوق العمل المفتوح، لكن ما يُحسب للدولة أنها لا تتجاهل هذه التحديات، بل تعترف بها وتسعى لمعالجتها بخطوات متتالية. كما أن النجاحات الجزئية، مثل مبادرة أسيوط، تُعد محفزًا قويًا للاستمرار وتكرار التجربة فى باقى المحافظات، مع تطوير الأدوات والاستفادة من الملاحظات. من المهم الاستمرار في العمل على تغيير الصورة النمطية السلبية عن ذوي الهمم في المجتمع، وإبراز قدراتهم وإمكاناتهم الكامنة. كما يجب العمل على توفير بيئة عمل دامجة وداعمة، تتيح لهم الفرصة لإظهار مهاراتهم وتحقيق طموحاتهم. بالرغم من التحديات، يبقى الأمل قويًا في تحقيق مستقبل أفضل لذوي الهمم في مصر، مستقبل يتمتعون فيه بالحقوق الكاملة والمساواة في الفرص، ويساهمون بفاعلية في بناء مجتمع قوي ومزدهر.