في خطوة علمية فارقة قد تعيد رسم ملامح مكافحة الأمراض العصبية التنكسية المدمرة مثل الزهايمر وباركنسون، كشفت دراسة رائدة نُشرت مؤخرًا في المجلة العلمية المرموقة "Proceedings of the National Academy of Science" (PNAS) بتاريخ 15 أبريل، عن تطوير أداة ذكاء اصطناعي متقدمة تُدعى "RibbonFold". هذه الأداة المبتكرة تمتلك قدرة فريدة على فك شيفرة الآليات المعقدة التي تتحول من خلالها البروتينات المرتبطة بهذه الأمراض من حالتها الطبيعية إلى هياكل أميلويدية ليفية ضارة تتراكم في أدمغة المرضى، مما يمثل تقدمًا جوهريًا في هذا المجال الطبي الحيوي.
الذكاء الاصطناعي "RibbonFold"
قاد هذا الجهد البحثي الطموح فريق من العلماء البارزين، بمن فيهم مينغشين تشين من مختبر تشانغبينغ المرموق، والبروفيسور بيتر وُلينز، عالم الفيزياء الحيوية النظري الشهير من جامعة رايس الأمريكية. محور الدراسة هو أداة RibbonFold، وهي ليست مجرد خوارزمية أخرى للتنبؤ ببنية البروتين، بل هي نموذج حسابي مُصمم خصيصًا لمواجهة تحدٍ لطالما استعصى على الباحثين: التنبؤ الدقيق بالبُنى المتغيرة والمعقدة للألياف الأميلويدية (Amyloid Fibrils) – تلك التكتلات البروتينية الليفية الطويلة والملتوية التي تُعد السمة المرضية المميزة للعديد من الاضطرابات العصبية.
تجاوز حدود النماذج التقليدية
ما يميز RibbonFold بشكل جذري هو تركيزها الاستراتيجي على البروتينات التي انحرفت عن مسارها الطبيعي في الطي، أي البروتينات "المطوية بشكل غير صحيح" (Misfolded Proteins). هذا النهج يتناقض بشكل صارخ مع أدوات الذكاء الاصطناعي السابقة، مثل AlphaFold الذي أحدث ثورة في التنبؤ ببنية البروتينات المطوية بشكل سليم، ولكنه لم يُصمم خصيصًا للتعامل مع الطبيعة الديناميكية والفوضوية أحيانًا للبروتينات المسببة للأمراض.
وفي هذا السياق، يؤكد البروفيسور وُلينز: "لقد أثبتنا بشكل قاطع إمكانية تطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي قادرة على التنبؤ بدقة مذهلة بهياكل الألياف الأميلويدية المتنوعة". ويضيف موضحًا التفوق النوعي للأداة الجديدة: "تتفوق RibbonFold بشكل ملحوظ على أدوات مثل AlphaFold في هذا المجال المحدد، لأنها دُرّبت واختُبرت على فهم خصائص البروتينات في حالتها المرضية، وليس فقط في حالتها الوظيفية السليمة."
منهجية مبتكرة ونتائج كاشفة
لتحقيق هذه الدقة، قام الباحثون بتدريب نموذج RibbonFold باستخدام قاعدة بيانات شاملة تضم الهياكل ثلاثية الأبعاد المعروفة للألياف الأميلويدية، والتي تم تحديدها تجريبيًا بتقنيات متقدمة. بعد مرحلة التدريب المكثف، تم اختبار قدرة النموذج على التنبؤ بهياكل أميلويدية جديدة لم يتعرض لها أثناء التدريب، وذلك لضمان قدرته على التعميم والتنبؤ الدقيق في سيناريوهات واقعية.
جاءت النتائج لتؤكد تفوق RibbonFold ليس فقط على الأدوات المنافسة في هذا المجال المتخصص، بل كشفت أيضًا عن تفاصيل دقيقة وغير مسبوقة حول ديناميكيات تشكل الأميلويد وتطوره داخل البيئة البيولوجية المعقدة للجسم. وتشير النتائج إلى أن عملية تكوين الألياف قد تبدأ ببنية أولية معينة، لكن هذه البنية ليست بالضرورة الشكل النهائي. بمرور الوقت، ونتيجة لعوامل فيزيائية وكيميائية، تتحول هذه الألياف وت "تنضج" لتتخذ تكوينات أكثر صلابة واستقرارًا من الناحية الديناميكية الحرارية، وهي غالبًا الأشكال الأكثر ارتباطًا بتفاقم المرض وتدهور الوظائف العصبية.
ويعلق البروفيسور وُلينز على هذه الظاهرة قائلاً: "يمكن للبروتينات المطوية بشكل خاطئ أن تتبنى عددًا هائلاً من الأشكال الهيكلية المختلفة، وهو ما يعرف بتعدد الأشكال (Polymorphism). ما تُظهره طريقتنا الحاسوبية هو أن الأشكال الأكثر استقرارًا من الناحية الطاقية والأقل قابلية للذوبان هي التي تميل إلى البقاء والتراكم في النهاية. وهذا يفسر جزئيًا لماذا تظهر الأعراض السريرية للأمراض العصبية التنكسية غالبًا في مراحل متأخرة من الحياة، بعد فترة طويلة من بدء عملية التشوه البروتيني."
آفاق واعدة لتطوير علاجات مبتكرة
إن قدرة RibbonFold على التنبؤ الدقيق بتعدد أشكال الأميلويد لا تمثل مجرد إنجاز أكاديمي، بل تحمل في طياتها وعودًا بتحقيق نقلة نوعية في الاستراتيجيات العلاجية للأمراض العصبية. فمن خلال توفير تحليل دقيق وقابل للتوسع للهياكل الضارة لتجمعات البروتينات، تفتح هذه الأداة الباب أمام عصر جديد في تصميم الأدوية. سيتمكن الباحثون والمطورون الصيدلانيون من استهداف البُنى الليفية الأكثر خبثًا والأشد ارتباطًا بتطور المرض بدقة لم تكن ممكنة من قبل، مما قد يؤدي إلى تطوير علاجات أكثر فعالية وأقل آثارًا جانبية.
علاوة على ذلك، تقدم الدراسة رؤى أعمق حول المبادئ الأساسية للتجميع الذاتي للبروتينات، وهي عملية بيولوجية محورية لا تقتصر أهميتها على الأمراض، بل تمتد لتشمل مجالات واعدة مثل تطوير المواد الحيوية الاصطناعية ذات الخصائص الفريدة. كما تقدم الدراسة إجابات محتملة للغز طويل الأمد في علم الأحياء البنيوي: كيف يمكن لنفس تسلسل الأحماض الأمينية في بروتين معين أن يؤدي إلى طيات مختلفة، بعضها سليم وبعضها الآخر مسبب لأمراض مدمرة؟
يختتم البروفيسور وُلينز بتفاؤل حذر: "إن القدرة على التنبؤ الدقيق بتعدد أشكال الأميلويد قد تكون خطوة محورية نحو فهم آليات الوقاية من تكون تجمعات البروتينات الضارة من الأساس. وهذا يمثل أملًا كبيرًا في مواجهة التحديات الهائلة التي تفرضها الأمراض العصبية التنكسية على الصحة العامة العالمية في القرن الحادي والعشرين."
يمثل تطوير RibbonFold شهادة قوية على الإمكانيات الهائلة للذكاء الاصطناعي في تسريع وتيرة الاكتشافات العلمية، خاصة في المجالات الطبية المعقدة، ويفتح نافذة أمل جديدة لملايين المرضى وعائلاتهم حول العالم