في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل الأوساط الحقوقية ودعوات السياسية الأوروبية، تقدمت إيطاليا وتسع دول أوروبية أخرى بمطالب لإجراء تعديلات على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (CEDH)، مشككة في مدى قدرتها على مواكبة التحديات الجديدة التي تواجه القارة، وعلى رأسها ملف الهجرة واللجوء. وتأتي هذه المبادرة وسط تصاعد التيارات الشعبوية واليمينية في عدة دول أوروبية، التي تضع ملف الهجرة في صدارة خطابها السياسي.

 

وبحسب ما نشرته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، فإن هذه الدول ومن بينها دعوات الدنمارك، بولندا، المجر، ليتوانيا، ولاتفيا  ترى أن تفسيرات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد تجاوزت في بعض القضايا النطاق الأصلي لنصوص الاتفاقية، ووصفت بعض قرارات المحكمة بأنها تمثل "توسيعًا مفرطًا" للصلاحيات القضائية، بما قد يحدّ من قدرة الدول على حماية حدودها ومصالحها الوطنية في وجه موجات الهجرة غير النظامية.

 

تعد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، الموقعة عام 1950، من الركائز القانونية الأساسية في أوروبا، وهي تلزم الدول الأعضاء بضمان الحريات المدنية والسياسية الأساسية لمواطنيها والمقيمين على أراضيها. وتتولى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، ومقرها في ستراسبورغ، مهمة تطبيق الاتفاقية والنظر في الانتهاكات المحتملة من قبل الحكومات.

 

لكن مع تصاعد التحديات المرتبطة بالهجرة، وما تفرضه من أعباء اقتصادية واجتماعية على بعض الدول، بدأت حكومات أوروبية تطعن في مدى ملاءمة الاتفاقية الحالية لمتغيرات العصر، خاصة حين تُصدر المحكمة قرارات تُجبر الدول على استقبال طالبي لجوء أو منعها من ترحيل مهاجرين حتى في ظروف استثنائية.

 

وتتهم بعض هذه الحكومات المحكمة بأنها تُعطل السياسات الوطنية التي تهدف للحد من الهجرة، بل وتحدّ من قدرة الأجهزة الأمنية على العمل بحرية لحماية الأمن الداخلي.

 

أمام هذا التصعيد، جاء الرد من الأمين العام لمجلس أوروبا، ألان بيرسيه، الذي أكد في بيان رسمي أن الاتفاقية "ليست قابلة للتفاوض أو التقييد السياسي"، محذرًا من تسييس المحكمة أو استخدامها كورقة ضغط سياسية سواء من قبل الحكومات أو ضدها.

 

وشدد بيرسيه على أن دور المحكمة يجب أن يظل مستقلًا ومحايدًا، وأن محاولات تقليص صلاحياتها ستُفهم على أنها تهديد مباشر لمنظومة العدالة الأوروبية.

 

وقال: "في مواجهة التحديات المعقدة لعصرنا، دورنا ليس إضعاف الاتفاقية، بل الحفاظ على صلابتها وملاءمتها للواقع".

 

أثار هذا الجدل ردود فعل قوية في الأوساط الحقوقية، إذ عبّرت منظمات مدافعة عن حقوق الإنسان عن قلقها من أن هذه الدعوات ليست سوى محاولة لتقويض الحماية القانونية للمهاجرين وطالبي اللجوء، تحت غطاء "التحديث" أو "مواكبة التحديات الجديدة".

 

ويرى خبراء القانون الدولي أن الاتفاقيات الحقوقية مثل CEDH وضعت أصلاً لتكون صامدة في وجه الأزمات السياسية والاقتصادية، وليس العكس. كما أكدوا أن التراجع عن مبادئ الحماية قد يفتح الباب أمام ممارسات تعسفية بدعوى الأمن أو السيادة، وهو ما يتناقض مع الأسس التي بُني عليها المشروع الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية.

 

في الواقع، لا يمكن إنكار أن أزمة الهجرة واللجوء تمثل تحديًا كبيرًا لمعظم الدول الأوروبية، خاصة في ظل النزاعات المتواصلة في مناطق مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، وما يرافق ذلك من تدفقات بشرية ضخمة باتجاه القارة.

 

لكن في المقابل، تستخدم هذه الأزمة أحيانًا كورقة انتخابية وسياسية من قبل أحزاب وحكومات تسعى لتعبئة الرأي العام عبر تصوير الهجرة كتهديد مباشر للهوية الوطنية والأمن العام.

 

ويخشى الحقوقيون من أن تحميل المحكمة الأوروبية مسؤولية هذه التعقيدات هو اختزال مغلوط للأزمة، وتجاهل للقصور في السياسات الأوروبية المشتركة حول تقاسم أعباء الهجرة وتنظيم اللجوء.

 

في ظل هذه التطورات، يبدو أن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان باتت في قلب معركة قيمية وسياسية بين من يرى أنها ضمانة أساسية للحريات والعدالة، ومن يعتبرها قيدًا أمام السياسات السيادية وبين هذا وذاك، تقف المحكمة الأوروبية كحارس أخير للحقوق، لكنها تواجه ضغوطًا متزايدة تهدد استقلالها ودورها.

 

المعركة المقبلة لن تكون فقط قانونية، بل أخلاقية وسياسية بامتياز، وستحدد إلى حد بعيد إن كانت أوروبا ستبقى وفية لقيمها التأسيسية، أم ستسمح بتمرير موجة جديدة من القيود باسم الواقعية السياسية.