إن الحديث عن أي اتفاق بين دمشق وتل أبيب يظل محفوفًا بتعقيدات جمة، تتجاوز البعد السياسي إلى أبعاد تاريخية ودينية عميقة الجذور. أحد أبرز هذه التعقيدات يتمثل في المطالب الإسرائيلية التي غالبًا ما تتعارض مع الثوابت الدينية والوطنية في سوريا. الشرع الإسلامي، الذي يمثل مرجعية هامة لشريحة واسعة من السوريين، يضع قيودًا واضحة على أي تنازلات تمس السيادة على الأراضي أو الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. هذا الرفض الشرعي يمثل عقبة حقيقية أمام أي محاولة للتقارب، حيث يضفي عليها طابعًا غير مقبول شعبيًا ودينيًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الذاكرة الجمعية السورية تحتفظ بصورة قاتمة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وهو ما يزيد من صعوبة تجاوز هذه المرحلة وبناء الثقة المتبادلة.
المياه الإقليمية والجولان.. قضايا خلافية لا تزال عالقة
تعتبر قضية المياه الإقليمية والجولان المحتل من أبرز القضايا الخلافية التي تعيق أي اتفاق محتمل بين دمشق وتل أبيب. إسرائيل تصر على سيطرتها على هضبة الجولان، التي احتلتها في حرب عام 1967، وتعتبرها جزءًا لا يتجزأ من أراضيها. في المقابل، تعتبر سوريا الجولان أرضًا سورية محتلة، وتطالب بعودتها الكاملة غير منقوصة كشرط أساسي لأي مفاوضات. هذا التناقض الجوهري في المواقف يمثل حجر عثرة كبير أمام أي تقدم في هذا الملف. بالإضافة إلى ذلك، فإن قضية المياه الإقليمية تثير خلافات حول حقوق الانتفاع من مصادر المياه المشتركة، وهو ما يضيف بعدًا آخر إلى هذه التعقيدات. إن غياب حلول مرضية لهذه القضايا الخلافية يجعل من الصعب تصور إمكانية التوصل إلى اتفاق شامل ودائم بين الطرفين.
التدخلات الخارجية.. عامل معقد يزيد من صعوبة الحل
لا يمكن إغفال دور التدخلات الخارجية في تعقيد المشهد السياسي وإعاقة أي محاولة للتقارب بين دمشق وتل أبيب. قوى إقليمية ودولية لها مصالح متضاربة في المنطقة، وتسعى إلى التأثير على مسار الأحداث بما يخدم أجنداتها الخاصة. هذه التدخلات غالبًا ما تؤدي إلى تأجيج الصراعات وتعميق الخلافات، مما يجعل من الصعب على الأطراف المعنية التوصل إلى حلول توافقية. على سبيل المثال، فإن الدعم الذي تقدمه بعض الدول لجماعات مسلحة معارضة للنظام السوري يعقد من مهمة تحقيق الاستقرار في البلاد، ويقلل من فرص التوصل إلى تسوية سياسية شاملة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الضغوط التي تمارسها بعض الدول على سوريا وإسرائيل تزيد من صعوبة التوصل إلى اتفاق يراعي مصالح جميع الأطراف المعنية.
غياب الثقة المتبادلة.. حاجز نفسي يصعب تجاوزه
يمثل غياب الثقة المتبادلة بين القيادتين والشعبين في سوريا وإسرائيل حاجزًا نفسيًا كبيرًا يصعب تجاوزه. سنوات طويلة من الصراع والعداء خلقت حالة من الشك والريبة المتبادلة، مما يجعل من الصعب بناء علاقات طبيعية بين البلدين. الذاكرة الجمعية لدى كلا الشعبين تحتفظ بصور سلبية عن الطرف الآخر، وهو ما يزيد من صعوبة تغيير هذه الصورة النمطية. بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب قنوات الحوار والتواصل المباشر بين الطرفين يعزز من حالة الجهل المتبادل، ويقلل من فرص بناء الثقة. إن تجاوز هذه العقبة النفسية يتطلب جهودًا كبيرة من كلا الطرفين، بما في ذلك اتخاذ خطوات ملموسة لبناء الثقة، وتعزيز الحوار والتواصل، والعمل على تغيير الصورة النمطية السلبية لدى كلا الشعبين.
مستقبل العلاقات.. سيناريوهات متعددة واحتمالات غير مؤكدة
إن مستقبل العلاقات بين دمشق وتل أبيب يظل غير واضح المعالم، حيث تتعدد السيناريوهات والاحتمالات. الوضع الراهن يشير إلى استمرار حالة الجمود والعداء، مع غياب أي مؤشرات قوية على إمكانية حدوث تغيير جذري في المواقف. ومع ذلك، فإن بعض المحللين يرون أن هناك إمكانية لحدوث تقارب تدريجي بين الطرفين، خاصة في ظل التغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة. هذا التقارب قد يبدأ باتخاذ خطوات صغيرة لبناء الثقة، مثل تبادل الأسرى أو التعاون في بعض الملفات الإنسانية. ومع ذلك، فإن التوصل إلى اتفاق شامل ودائم بين دمشق وتل أبيب يظل رهنًا بتجاوز العقبات التاريخية والدينية والسياسية والنفسية التي ذكرناها سابقًا. إن تحقيق هذا الهدف يتطلب إرادة سياسية قوية من كلا الطرفين، ودعمًا دوليًا وإقليميًا واسعًا.