أكد الدكتور أحمد الرخ، أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، أن مناسك الحج تحمل في طياتها دروسًا عظيمة للمسلمين، وعلى رأسها إخلاص النية لله وحده. وأوضح أن هذا المعنى يتجلى بوضوح في التلبية التي يرددها الحاج، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، مؤكدًا أنها إعلان صريح بأن الغاية من كل أعمال الحج هي ابتغاء وجه الله تعالى. وفي حديثه ضمن برنامج "مع الناس" على قناة الناس، أشار الدكتور الرخ إلى أن أغلب مناسك الحج تعتبر من العبادات التعبدية المحضة، حيث يؤديها المسلم دون البحث عن العلل أو الغايات المنطقية الظاهرة.

 

وأضاف الدكتور الرخ أن التعبد في الحج يعني التسليم الكامل لأمر الله، فالحاج عندما يرتدي الإحرام، أو يطوف بالكعبة، أو يرمي الجمرات، أو يبيت في مزدلفة، قد لا يدرك العقل البشري الحكمة الكاملة وراء كل فعل، ولكنها أعمال تعبدية خالصة تقتضي التسليم لأمر الله دون نقاش أو تردد. وأشار إلى أن هذا التسليم هو جوهر العبودية لله، وأن الحاج يعبر بلسان حاله عن استسلامه الكامل لإرادة الله، مقتديًا بقول العلماء: "سلّم أمرك لله تسلم". هذا التسليم يمثل تحررًا من قيود العقل المحدود، وانطلاقًا نحو فضاء أوسع من الإيمان والتصديق المطلق بحكمة الله.

 

وأوضح أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر أن اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أداء المناسك يمثل أحد أهم مقاصد الحج. فكل شعيرة من شعائر الحج هي إحياء لسنة النبي، وتعبير عن المحبة والاتباع له، مصداقًا لقوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله". واستشهد بموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيله الحجر الأسود، حين قال: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". هذا الموقف يجسد المعنى التعبدي العميق، والاتباع الدقيق للسنة النبوية حتى في الأمور التي قد تبدو غريبة أو غير مفهومة للعقل. فالاقتداء بالنبي هو دليل الحب الصادق، والاتباع الكامل لأوامره ونواهيه.

 

كما تطرق الدكتور الرخ إلى سنة "الرمل"، وهو الإسراع في المشي في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف، وأشار إلى أن هذه السنة كانت في الأصل ردًا عمليًا على المشركين الذين اتهموا المسلمين بالضعف والمرض بعد هجرتهم إلى المدينة. فعندما رأى عمر بن الخطاب أن المسلمين قد استقروا وتمكنوا، تساءل: "ما لنا والرمل؟" ثم عاد وقال: "شيء فعله رسول الله فلا نتركه". هذا الموقف يؤكد على أهمية اتباع السنة النبوية حتى في الأمور التي قد تبدو غير ضرورية أو غير ذات جدوى ظاهرة. فالسنة هي النبراس الذي يضيء طريق المسلمين، وهي الدليل القاطع على صدق المحبة والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم.

وأكد الدكتور أحمد الرخ على أن التيسير هو أحد مقاصد الشريعة الإسلامية في الحج، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النحر: "افعل ولا حرج". هذا الحديث يدل على أن الشريعة الإسلامية تراعي ظروف الزحام والمشقة في أداء المناسك، وأنها تبيح للحاج أن يفعل ما هو أيسر عليه إذا كان يواجه صعوبة في أداء بعض المناسك على الوجه الأكمل. فالحج هو مدرسة عملية في التسليم، والإخلاص، والاتباع، والتيسير، وكل ركن من أركانه يحمل درسًا عظيمًا لو تدبره الحاج. فالحج ليس مجرد رحلة إلى الأماكن المقدسة، بل هو رحلة إلى أعماق النفس، وتطهير للقلب، وتجديد للإيمان.