مع ارتفاع درجات الحرارة في جنوب مصر عبر آلاف السنين، أدرك المصريون القدماء أهمية البيئة وتأثيرها على الحياة اليومية. لقد كانوا أول من انتبه للتغيرات المناخيةوارتفاع درجات الحرارة، وابتكروا حلولاً ذكية لمواجهة هذه التحديات. من بين هذه الحلول، برزت فكرة إنشاء الحدائق والبساتين، ليس فقط كأماكن للجمال والاسترخاء، بل أيضاً كأدوات فعالة لتلطيف الجو وتقليل تأثير الحرارة الشديدة. هذه الحدائق لم تكن مجرد مساحات خضراء عشوائية، بل كانت تصمم بعناية فائقة، مع مراعاة موقعها وأنواع النباتات التي تزرع فيها، لضمان تحقيق أقصى فائدة ممكنة من حيث التبريد وتوفير الظل.

 

كانت البساتين والحدائق في مصر القديمة غالباً ما تُلْحَق بالقصور الملكية، وبيوت كبار المسؤولين والنبلاء، وحتى المعابد المختلفة. لم تكن هذه الحدائق مقتصرة على فئة معينة من المجتمع، بل كانت تعكس اهتماماً عاماً بجمال الطبيعة وفوائدها. تتميز الحديقة المصرية القديمة عادةً بسور يحيط بها، ومدخل يؤدي إلى الداخل، وبركة مياه ملحقة بها، تعيش فيها الأسماك والطيور المائية المختلفة. كما كانت النباتات المائية، مثل زهور البردي واللوتس وزنبق الماء، جزءاً أساسياً من تصميم الحديقة، مما يضفي عليها جمالاً خاصاً ويساهم في تنقية الهواء وتلطيف الجو. هذه البرك المائية لم تكن فقط عنصراً جمالياً، بل كانت أيضاً مصدراً للري، حيث يتم استخدام المياه في ري النباتات والأشجار الأخرى في الحديقة.

 

يقول الطيب غريب، المدير السابق لمعابد الكرنك، إن القدماء المصريين عملوا على مواجهة ارتفاعات درجات الحرارة بالحدائق والبساتين التي تساهم في تلطيف الجو صيفاً. كانت الحديقة تحتوي على العديد من أنواع الأشجار والزهور والنباتات المختلفة، مما يبعث البهجة والسرور في النفوس، بالإضافة إلى بعض المباني والهياكل المشيدة في محيطها. أحياناً كانت الحديقة تحتوي على بعض التماثيل للآلهة والمعبودات، بالإضافة إلى بعض القنوات والمجاري المائية المنتشرة داخل الحديقة. هذه القنوات والمجاري المائية كانت تلعب دوراً هاماً في توزيع المياه على مختلف أجزاء الحديقة، وضمان وصولها إلى جميع النباتات والأشجار.

لم تكن الحدائق والبساتين مجرد أماكن للجمال والراحة، بل كانت أيضاً تستخدم في أغراض دينية واقتصادية.

 

كان المصريون القدماء يقدسون الطبيعة ويهتمون بها كثيراً، واستخدموا الحدائق والبساتين كأحد الوسائل للتريض والترويح عن النفس. أحياناً كان الشخص يركب مركبه ويجدف داخل البحيرة في صحبة بعض الجواري أو المحظيات أو زوجاته. كما كان يتم استخدام الفواكه والخضروات وأنواع الزهور المختلفة التي كان يتم زراعتها في تلك الحدائق في أعمال تقديم القرابين الطازجة أمام تماثيل الآلهة والمعبودات من قبل الكهنة في تلك المعابد. هذا يدل على أن الحدائق والبساتين كانت جزءاً لا يتجزأ من الحياة الدينية والاقتصادية في مصر القديمة.

 

تعتبر حدائق معابد الكرنك من أبرز الأمثلة على اهتمام المصريين القدماء بالحدائق والبساتين. يعتقد بعض العلماء أنه كان يوجد بمجموعة معابد الكرنك ومحيطها حوالي 26 حديقة مختلفة وبستان مختلف الحجم والمساحة، وذلك وفقاً لبعض النصوص التي عثر عليها في معابد الكرنك ومناظر مقابر الأشراف والمسؤولين بالبر الغربي بطيبة. من بين هذه الحدائق، تبرز الحديقة الأمامية لمجموعة معابد الكرنك المصورة على جدران مقبرة (نفر حوتب)، وحدائق الملك (نختنبو الأول) المحيطة بطريق الكباش، وحديقة من عهد الملك (إخناتون) داخل معابد الكرنك. هذه الحدائق تعكس مدى التطور والازدهار الذي وصلت إليه فنون البستنة والزراعة في مصر القديمة، وتؤكد على أن المصريين القدماء كانوا رواداً في مجال الاهتمام بالبيئة والتكيف مع التغيرات المناخية.