في خطوة تاريخية مهمة، بدأت الفصائل العراقية في تسليم أسلحتها إلى الدولة، مما يمثل تحولاً محورياً نحو تحقيق الاستقرار وتعزيز دور العراق الإقليمي. هذه الخطوة، التي بدأت في منتصف يوليو 2025، تحمل في طياتها تداعيات إيجابية عديدة، ليس أقلها تحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز العلاقات مع دول الجوار. في ظل الصراعات المتفاقمة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، تبرز هذه المبادرة كنموذج واعد لعملية إصلاح شاملة تنتهجها الدولة العراقية. هذه العملية تشمل مسارات متعددة ومتداخلة، بدءاً من المشروعات الاقتصادية العملاقة التي تهدف إلى علاج أزمات المواطن بعد عقود من عدم الاستقرار، مروراً بالحرب على الإرهاب، وصولاً إلى إعادة تعريف الهوية وإدارة العلاقات مع دول الجوار. تسليم السلاح يعتبر خطوة حاسمة نحو بناء عراق مستقر ومزدهر، قادراً على استعادة دوره المحوري في المنطقة.

 

تحديات الماضي وتطلعات المستقبل

إن أزمة العراق هي أزمة مركبة ومتداخلة، تعود جذورها إلى عقود مضت، بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية في الثمانينات، مروراً بأزمة الكويت في التسعينات، وصولاً إلى الغزو الأمريكي في بداية الألفية وتفشي الإرهاب. هذه الأحداث المتلاحقة أدت إلى سيطرة الميليشيات المسلحة على مساحات واسعة من الأراضي العراقية، وتأسيس تنظيم داعش الإرهابي، مما فاقم الأوضاع الداخلية الفوضوية. هذه الأوضاع تفاعلت بشكل كبير مع جوار إقليمي مرتبك تهيمن عليه حالة من الاستقطاب بين القوى المتنافسة، بالإضافة إلى محاولات دولية لفرض نماذج بعينها على الحالة العراقية، لم تحقق نجاحاً يذكر، بل أضافت مزيداً من التعقيد على المشهد الداخلي. اليوم، ومع تسليم الفصائل لأسلحتها، يلوح في الأفق بصيص أمل نحو تجاوز هذه التحديات وبناء مستقبل أفضل للعراق.

 

الاستقرار الداخلي وتعزيز الأمن القومي

التفاعل بين أزمات الداخل والأوضاع الإقليمية والمستجدات الدولية يضفي المزيد من الأهمية على خطوة تسليم الأسلحة. هذه الخطوة تأتي في إطار العديد من المسارات، أولها إضفاء الحماية للداخل عبر تحقيق الاستقرار، وهو ما تسعى إليه الحكومة العراقية خلال السنوات الماضية، خاصة بعد الانتصار على جماعات الظلام وتحرير الأراضي العراقية من براثنهم. تسليم السلاح يمثل لبنة جديدة في إعادة بناء السلم المجتمعي، عبر احتواء كافة الفئات تحت مظلة الدولة المركزية. امتلاك السلاح على أساس فئوي أو طائفي يمثل قنبلة موقوتة، تقدم ذرائع للفئات الأخرى لاتخاذ النهج نفسه بحجة الدفاع عن النفس. بالإضافة إلى ذلك، يمثل تسليم السلاح توجهاً صريحاً لحماية ما يتحقق من منجزات، خاصة على الصعيد الاقتصادي، وهو ما يبدو واضحاً في المشروعات العملاقة التي تشهدها بغداد والمحافظات الأخرى، لتعزيز الأوضاع الاقتصادية، وهو الأمر الذي يبقى مرهوناً إلى حد كبير بمدى قدرة الدولة على تعزيز الحالة الأمنية.

 

الشراكات الإقليمية واستعادة الدور

الإصلاح في العراق لا يرتبط بالإنجاز الأخير، وإن كان واحداً من أبرز المحطات على طريق استعادة دور بغداد، وإنما يمتد إلى العديد من الخطوات الهامة التي اتخذتها خلال سنوات قليلة ماضية، منها الشراكات الإقليمية التي دشنتها، خاصة في محيطها العربي، في إطار العلاقة القوية التي جمعتها بكلا من مصر والأردن، والتي مثلت نقطة انطلاق نحو التأكيد على التمسك بالهوية العربية، في الوقت الذي احتفظت فيه بعلاقتها مع القوى الإقليمية الأخرى، على غرار إيران وتركيا، وهو ما يعكس قدرة على استثمار الجغرافيا في تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية، دون التورط في صراعات إقليمية قد تستنزفها، في الوقت الذي تحاول فيه إعادة بناء نفسها. الحديث عن العلاقة بين العراق والقوى العربية البارزة، وعلى رأسها مصر، يعد محورياً في هذا الإطار، خاصة وأن التجربة العراقية، وإن اتسمت باستقلاليتها، إلا أنها استلهمت جزءاً كبيراً منها من نظيرتها المصرية، خاصة في أعقاب ما يسمى بـ"الربيع العربي"، وما نجم عنه من تفشي للإرهاب، وتراجع اقتصادي، وغير ذلك من أوضاع صعبة، فكان القضاء على جماعات الظلام بمثابة الخطوة الأولى للعودة، جنباً إلى جنب مع العمل الجاد على تحقيق طفرة تنموية، أعادت رسم خريطة الدولة، على أساس من التوافقات، التي ساهمت في تمكين كافة الأطراف الفاعلة في المجتمع دون تهميش، سواء سياسياً أو اقتصادياً أو مجتمعياً أو ثقافياً، وهو ما بدا في العديد من الخطوات المتواترة، التي ساهمت في مجملها في تعزيز دور الجميع، ومشاركتهم في عملية صناعة القرار.

 

نموذج للتنمية والسلام

استضافة العراق للقمة العربية الأخيرة في شهر مايو الماضي تمثل خطوة مهمة لتعزيز الهوية العربية، التي تمثل أحد أهم أسس الشخصية الدولية لبغداد، بينما في الوقت نفسه تؤكد عودتها كفاعل إقليمي مهم في محيطها الجغرافي، بعد سنوات من التراجع بحكم الظروف، سواء المرتبطة بالداخل أو بالإقليم بأسره، وهو ما يفتح الباب أمام دور أكبر لبغداد في معالجة الأزمات الإقليمية المعقدة التي تشهدها المنطقة، في ضوء علاقاتها القوية مع كافة أطراف المعادلة الإقليمية، وهي التي تعززت مؤخراً بنزع سلاح الفصائل، والتي كانت تراها دول الجوار تهديداً أمنياً لها، وهو ما يمثل خطوة مهمة على طريق التنمية وبناء السلام في المجتمع بالداخل، وعلى مستوى العلاقة مع القوى الأخرى بالإقليم. تجربة العراق تمثل نموذجاً مهماً في تعزيز ما يمكن تسميته بـ"معسكر التنمية" في منطقة الشرق الأوسط، والذي يمثل محور ارتكاز في إعادة صياغة السياسات الإقليمية الجمعية على نحو من الشراكة بين كافة الأطراف الفاعلة بالمنطقة لتحقيق المصالح المشتركة، حتى وإن وجدت الخلافات البينية، لتطغى المصالح على الخلافات، وهو ما يضمن تحقيق أكبر قدر من الاستقرار الإقليمي، بينما تتوحد الرؤى والمواقف فيما يتعلق بالمشتركات، وهو ما يخدم القضايا المركزية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وهو النموذج الذي يمكن استلهامه في دول أخرى، في ظل واقع يبدو متغيراً على المستوى الإقليمي، بعد مستجدات طرأت على المنطقة منذ ما يقرب من عامين، وضعت العديد من الأطراف، سواء دول أو تنظيمات، على المحك، لإعادة تقييم أوضاعها، والتحول نحو خطوات من شأنها تعزيز الصمود في مواجهة أي محاولة لانتهاك سيادة الدول أو قضاياها.