نشهد في عالمنا المعاصر تدفقا إعلاميا مكثفا يرسم صورة للذكاء الاصطناعي تبدو وكأنها انعكاس رقمي لنا نحن البشر، فهو يقدم لنا عبارات منمقة ويحاكي التعبيرات العاطفية بل ويدعي القدرة على التعاطف والإبداع، هذه الواجهة المصقولة تخفي حقيقة مغايرة ومقلقة، فالذكاء الاصطناعي بشكله الحالي لا يمتلك أيا من هذه السمات الإنسانية الجوهرية، وإن تقديمه بهذه الصورة يحمل في طياته مخاطر عميقة، فقوته الحقيقية تكمن في قدرته الهائلة على الإقناع والخداع بوهم يكاد يكون حقيقيا
حقيقة الذكاء الاصطناعي بعيدا عن الأنسنة
من الضروري أن نعي تماما أن ما يسمى بالذكاء الاصطناعي اليوم ليس إلا نظاما إحصائيا متقدما للغاية، أشبه بببغاء رقمي متطور يعيد إنتاج الأنماط اللغوية والسلوكية التي تعلمها من كميات هائلة من البيانات التي أنتجها البشر في الأساس، فعندما يجيب على استفساراتنا أو ينخرط في حوار، هو لا يفكر أو يفهم بالمعنى الإنساني المتعارف عليه، بل يقوم بعملية تخمين إحصائي معقدة للكلمة أو الحرف التالي الأكثر احتمالا بناء على تدريبه المكثف، هذا يعني افتقاره التام لأي شكل من أشكال الوعي أو الإدراك الحقيقي أو الفهم العميق للسياق والمعنى، ما نراه هو براعة حسابية واحتمالية فائقة وليست ذكاء حقيقيا أو مشاعر أصيلة، أما فكرة الذكاء الاصطناعي العام القادر على محاكاة القدرات المعرفية البشرية كاملة فلا تزال بعيدة المنال وضمن نطاق الخيال العلمي
تداعيات إضفاء الصفات البشرية على الآلة
إن منح الذكاء الاصطناعي وجها بشريا أو صوتا ذا نبرة إنسانية أو حتى أسلوب تواصل يوحي بالعاطفة هو ما يعرف بأنسنة الذكاء الاصطناعي، وهذا التوجه ينطوي على مخاطر جدية لعدة أسباب منها
-
إسناد صفات بشرية زائفة للآلة كالفهم العميق والتعاطف الحقيقي وهي لا تمتلكها
-
بناء ثقة مفرطة وغير مبررة في قدرات وأحكام الذكاء الاصطناعي تتجاوز كونه أداة
-
التغافل عن دور المتحكمين الحقيقيين وراء هذه الأنظمة سواء كانوا مبرمجين أو شركات أو حتى حكومات وتوجهاتهم
-
فتح الباب أمام إمكانية التلاعب العاطفي والسلوكي بالمستخدمين الذين يميلون لتصديق الواجهة البشرية
-
تجاهل حقيقة افتقار الذكاء الاصطناعي لأي أهداف أو دوافع أو منظومة أخلاقية ذاتية خاصة به
إن المشكلة الجوهرية تكمن في أن هذه الآلة الصماء لا تدرك مطلقا معنى أن تكون إنسانا، فهي لا تستطيع تقديم تعاطف صادق أو استشعار للمعاناة الحقيقية أو كشف للدوافع الخفية والأكاذيب، إنها مجردة تماما من الحدس والذوق والبوصلة الأخلاقية الداخلية وكل ذلك التعقيد الإنساني الساحر والفوضوي الذي يشكل هويتنا، والأكثر إثارة للقلق هو أن أهدافها وسلوكياتها وأخلاقياتها الظاهرية هي نتاج مباشر لما يتم حقنه في أكوادها البرمجية من قبل البشر الذين يقفون خلفها، وهنا يكمن الخطر الفعلي، ليس في الآلة بحد ذاتها بل في الجهة التي تتحكم بها وتوجهها، فهل يمكننا حقا أن نأتمن هذه الكيانات على أعمق أسرارنا وقرارات حياتنا من خلال وسيط هو في النهاية مجرد كود برمجي متطور، ومع ذلك فإن الكثيرين يتفاعلون حاليا مع نماذج مثل جي بي تي وغيره بهذه الطريقة تماما، مما يستدعي وقفة جادة للتفكير والتوعية بهذه المخاطر الكامنة.