يشهد العالم تحولا جذريا تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تتغلغل في كافة مناحي الحياة والصناعة لكن هذا التقدم المذهل يأتي بثمن باهظ على صعيد الطاقة حيث يتوقع خبراء أن يتضاعف الطلب العالمي على الكهرباء بحلول عام 2030 مدفوعا بشكل كبير بالتوسع الهائل في تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات التي تشكل عصب هذه التقنية
تقرير حديث صادر عن جهة مرموقة هي الوكالة الدولية للطاقة يسلط الضوء على هذه العلاقة المتنامية بين الذكاء الاصطناعي واستهلاك الطاقة التقرير الذي حمل عنوان "الطاقة والذكاء الاصطناعي" كشف عن أرقام مقلقة ومؤشرات تدعو للتفكير العميق في مستقبل الطاقة العالمي
صناعة الذكاء الاصطناعي محرك الطلب الجديد
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد مفهوم أكاديمي أو حلم مستقبلي بل تحول خلال سنوات قليلة إلى صناعة ضخمة تجتذب استثمارات تقدر بتريليونات الدولارات هذا التحول كان مدفوعا بعاملين رئيسيين هما انخفاض تكاليف الحوسبة بشكل كبير وزيادة هائلة في حجم البيانات المتاحة التي تعتبر وقود نماذج الذكاء الاصطناعي
التقرير يؤكد أن وجود الذكاء الاصطناعي وتطوره مرتبطان بشكل وثيق بتوافر الطاقة لكن في المقابل يمكن للذكاء الاصطناعي نفسه أن يلعب دورا محوريا في إحداث تحول كبير وربما إيجابي في قطاع الطاقة مستقبلا من خلال تحسين الكفاءة وإدارة الشبكات والتنبؤ بالطلب
الاستثمارات في البنية التحتية الداعمة للذكاء الاصطناعي وخاصة مراكز البيانات شهدت طفرة غير مسبوقة فمنذ عام 2022 تضاعف حجم الاستثمار العالمي في هذا القطاع ليصل إلى ما يقدر بنصف تريليون دولار أمريكي في عام 2024 وحده وهو رقم يعكس حجم الثقة والرهان على مستقبل هذه التقنية
مراكز البيانات شهية لا تنتهي للطاقة
تعتبر مراكز البيانات المستهلك الأكبر للطاقة في منظومة الذكاء الاصطناعي هذه المنشآت الضخمة التي تضم آلاف الخوادم تعمل على مدار الساعة لمعالجة وتخزين كميات هائلة من البيانات وتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المعقدة
الوكالة الدولية للطاقة تتوقع أن يرتفع استهلاك الكهرباء الخاص بمراكز البيانات بشكل كبير ليصل إلى حوالي 945 تيراواط ساعة بحلول عام 2030 وهو رقم هائل يوضح حجم التحدي القادم ولوضع هذا الرقم في سياقه فإن مركز بيانات واحد بقدرة 100 ميغاواط يستهلك كمية من الكهرباء تعادل استهلاك مدينة صغيرة تضم حوالي 100 ألف منزل
وبالنظر إلى الصورة الأكبر تمثل مراكز البيانات حاليا حوالي 15% من إجمالي استهلاك الكهرباء العالمي في عام 2024 أي ما يعادل 415 تيراواط ساعة وقد شهد استهلاكها نموا سنويا مطردا بلغ حوالي 12% منذ عام 2017 ومع تسارع وتيرة تبني الذكاء الاصطناعي يتوقع أن يتضاعف الطلب على الكهرباء من مراكز البيانات المحسنة بالذكاء الاصطناعي بأكثر من أربعة أضعاف بحلول عام 2030
حجم الزيادة المرتقبة وأرقام مقلقة
القفزة المتوقعة في استهلاك الكهرباء بسبب الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات تثير قلقا متزايدا بشأن قدرة شبكات الكهرباء الحالية على مواكبة هذا الطلب المتسارع فاتح بيرول المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية صرح بأن الزيادة المتوقعة في الطلب العالمي على الكهرباء خلال السنوات الخمس القادمة ستكون ضخمة لدرجة أنها ستعادل بحلول عام 2030 إجمالي استهلاك دولة صناعية كبرى مثل اليابان حاليا
ورغم ضخامة هذه الأرقام يشير التقرير إلى أن حصة مراكز البيانات من نمو الطلب العالمي على الكهرباء حتى عام 2030 ستمثل حوالي عُشر هذا النمو وهي نسبة تظل أقل من حصة قطاعات أخرى مثل المحركات الصناعية أو أنظمة تكييف الهواء في المنازل والمكاتب أو حتى المركبات الكهربائية التي تشهد انتشارا متزايدا لكن سرعة نمو الطلب من قطاع الذكاء الاصطناعي هي ما يثير الاهتمام والقلق
من أين ستأتي كل هذه الكهرباء
تلبية هذه الحاجة المتزايدة للطاقة من مراكز البيانات يمثل تحديا كبيرا لمنتجي وموزعي الكهرباء حول العالم التقرير يرجح أن يتم الاعتماد على مزيج متنوع من مصادر الطاقة لمواجهة هذا الطلب المتنامي
من المتوقع أن يقع العبء الأكبر على مصادر الطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح وكذلك على الغاز الطبيعي يعود ذلك بشكل أساسي إلى قدرتهما التنافسية من حيث السعر وتوافرهما المتزايد في الأسواق العالمية مقارنة بمصادر أخرى وهذا يضع ضغطا إضافيا لتسريع وتيرة التحول نحو الطاقة النظيفة وتطوير شبكات نقل وتوزيع أكثر ذكاء ومرونة
التحدي البيئي انبعاثات متزايدة ومخاوف مناخية
مع تزايد استهلاك الكهرباء ترتفع حتما المخاوف البيئية المتعلقة بانبعاثات الكربون الناتجة عن توليد هذه الكهرباء خاصة إذا لم يتم الاعتماد بشكل كاف على المصادر النظيفة تقرير وكالة الطاقة الدولية يرسم صورة مقلقة بهذا الشأن
-
الانبعاثات الحالية: تقدر انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء حاليا بحوالي 180 مليون طن سنويا
-
السيناريو الأساسي: يتوقع التقرير ارتفاع هذه الانبعاثات إلى 300 مليون طن بحلول عام 2035 في حال استمرار الأمور على وتيرتها الحالية
-
سيناريو الانطلاق: في حال تسارع نمو القطاع بشكل أكبر قد تصل الانبعاثات إلى 500 مليون طن بحلول نفس العام 2035
هذه الأرقام تؤكد أن التوسع الهائل في الذكاء الاصطناعي قد يتعارض مع الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ إذا لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة لضمان تغذية هذا النمو بالطاقة النظيفة والمستدامة ورغم أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي نفسها قد تساهم في تحسين كفاءة استخدام الطاقة وخفض الانبعاثات في قطاعات أخرى إلا أن البصمة الكربونية لمراكز البيانات نفسها تظل تحديا كبيرا لا يمكن تجاهله
في الختام يبدو واضحا أن ثورة الذكاء الاصطناعي تحمل معها تحديا هائلا في مجال الطاقة يتطلب الأمر تضافر الجهود بين مطوري التقنية وصناعة الطاقة والحكومات لضمان أن هذا التقدم لا يأتي على حساب كوكبنا ومستقبل أجيالنا القادمة من خلال الاستثمار المكثف في الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة مراكز البيانات وتطوير شبكات ذكية قادرة على مواجهة هذا الطلب المتسارع